كيف إستحوذ الفيسبوك على أعمال وسائل الإعلام و الناشرين ؟

باعت وسائل الإعلام الكبيرة مجال أعمالها خلال العقد الماضي إلى الفيسبوك , طمعا في زيارات الإحالة التي تقدهما الشبكة الإجتماعية العملاقة التي تضم أكثر من 2 مليار مستخدم .

و أمضت معظم هذه المنصات الإعلامية السنوات القليلة الماضية تغير من معادلتها تحت رحمة خوارزميات الفيسبوك. بدلا من تطوير جمهور من زوار الصفحة الرئيسية والمشتركين في النشرة الإخبارية، تاركين المستخدمين الذين تم غسل دماغهم يظنون أن الفيسبوك أصبح مصدرا لمعلوماتهم.

الآن الفيسبوك يعلن عن دفعه لإستراتيجية جديدة تعتمد على إظهار الأخبار المحلية، و لكن الناشرين يجب أن يكونوا حذرين من اتخاذ نفس الأخطاء السابقة.

و قد توفر هذه الخطوة المزيد من حركة المرور لمواقع الناشرين على المدى القصير، و لكنها يمكن أن تعلم المستخدمين أنهم بحاجة فقط لزيارة الفيسبوك للحصول على الأخبار المحلية في المستقبل. و هنا يكمن ذكاء الفيسبوك في إعادة توجيهنا على مدى السنوات ال 12 الماضية للإستحواذ على دولارات وسائل الإعلام .

و لكي نكون واضحين فإن نية فيسبوك، التي يبدو أنها جادة في تعزيز علاقات أقوى بين مستخدميها و مجتمعاتهم لتعزيز الرفاهية. ولكن هذا لا يعني بعض الآثار الجانبية. فالنقطة الواضحة الآن هي أن استراتيجية الفيسبوك في المدى القصير هي جعل المستخدمين على رأس أولوياتها، ثم يأتي بعد ذلك الشبكة الإجتماعية، ثم البعد الثالث و الذي يشمل المطورين و المعلنين وبالتأكيد ناشري الأخبار.

هذه الاستراتيجية هي في الواقع خدمة ذاتية على المدى الطويل، حيث أن الفيسبوك لا يزال يهيمن على المستخدمين الذين لا يبدو أنهم سيتركونه. و بالعودة الى عام 2010، فيسبوك تخلصت من بعض مطوري الألعاب على منصتها مثل Zynga، التي كانت ألعابها تجذب المستخدمين بعيدا عن الشبكة الإجتماعية و بذلك نقص الأرباح على المدى المتوسط.

وهذا ما يفسر إعلان الرئيس التنفيذي مارك زوكربيرغ مؤخرا بأن فيسبوك سيجري تغييرات لتحسين الرفاهية حتى لو تسبب ذلك في خفض الوقت الذي يقضيه المستخدمون في الموقع أو إيراداته الإعلانية. و قد تكون هذه العواقب مؤثرة على المدى القصير لكنها خطة ذكية في المستقبل. حيث من الأفضل التضحية ببضع دقائق يوميا لكل مستخدم الآن للإحتفاظ به لسنوات قادمة.

إعادة توجيه المستخدمين

في بدايات موقع الفيسبوك، لم تكن هناك خلاصة أخبار  و كان عليك فقط تصفح الملفات الشخصية للأصدقاء. إطلاق خلاصة الأخبار في عام 2006 قام بإعادة توجيه المستخدمين للذهاب إلى الصفحة الرئيسية للفيسبوك حيث كل شيء سوف يأتي لك دون أن تبحث عنه. و بذلك تبعتها العلامات التجارية و الناشرين الذين استثمروا في بناء قاعدة جماهيرية من خلال إحالات الفيسبوك.

كما تحول مستخدموا فيسبوك من أجهزة الكمبيوتر و الماكينتوش إلى أندرويد و آيفون، و بذلك تحول إهتمام الشركة و تركيزها على منصات الأجهزة الذكية. حيث لاحظ الفيسبوك أن أجهزة الكمبيوتر المكتبية و المحمولة تستخدم شاشات كبيرة بما فيه الكفاية لاستيعاب نوافذ متعددة، و التي تتيح التبديل بين علامات التبويب السريعة للمتصفح مما يسمح للمستخدمين بسهولة القفز بين مواقع مختلفة.

و لكن على الهاتف المحمول مع شاشات صغيرة و انخفاض جودة التطبيق و قدرة الاتصالات الضعيفة و المحدودة و التحميل البطيء للمواقع ، كلها أثرت على تجربة المستخدمين الذين استولى عليهم  تطبيق واحد فقط و هو الفيسبوك الذي جذب إليه جميع المحتوى و قام بعد ذلك بتعليمنا التمرير الى الأسفل بدلا من التوجه الى مصادر و تبويبات أخرى.

Facebook-logo-on-mobile.jpg

في عام 2011، عندما إنتبه الفيسبوك لأول مرة لمنافسة موقع تويتر، أطلق بعض الميزات للاشتراك في وصلات الأخبار التي تم التركيز على تصميمها في خلاصة الأخبار . و بحلول عام 2014، أصبح الفيسبوك آلة أخبار كبيرة مع ميزاته الكثيرة مثل الأكثر رواجا، الهاشتاغ و دفع وسائل الإعلام لتعزيز و تكبير صفحاتهم.

و يبدو أن التأكيد على “الأخبار” في الموقع يهدف إلى التحكم في المستخدمين وجعلهم ينتظرون العناوين الكبيرة التي ستغير العالم و التي ستأتي إليهم بدلا من التنقل بين الصفحات الرئيسية لمختلف الناشرين. وقد أصبح العديد منا لا ينقر حتى لمعرفة التفاصيل بل يحصلون على جوهر الأخبار فقط من العنوان و معاينة بعض المحتوى. و يتبع بذلك المعلنون هذه الموجة، مما يحول إنفاقهم من مواقع الناشر إلى الفيسبوك.

المقالات الفورية

في عام 2015، أدرك الفيسبوك أن المستخدمين يكرهون انتظار المواقع بطيئة التحميل، لذلك تم إطلاق خدمة المقالات الفورية لاستضافة محتوى الناشر داخل التطبيق الخاص بها. و تم تصميم المقالات الفورية لتغني المستخدمين عن زيارة مواقع الأخبار.

بدلا من ذلك جذب إهتمامهم للصفحة الأصلية سريعة التحميل التي تم تجريدها من هوية الناشر و العديد من فرص جذب القراء و تحقيق الدخل. و يتبع المعلنون هذه الموجة أيضا، حيث يسمح الفيسبوك للناشرين ببيع الإعلانات على المقالات الفورية الخاصة بهم.

هذه هي الطريقة التي يحول بها فيسبوك الناشرين إلى كتاب وهميين، و هو الذي جعلهم يدخلون في منافسة مع بعضهم البعض حول السيطرة على “المحتوى ” القابل للتبديل على حساب “الخوارزميات الذكية ” في الفيسبوك.

بدأ الناشرين بحكمة في تعديل الكفة، مطالبين بمزيد من المرونة في النشر و تحقيق الدخل، و كثيرون تركوا منصة المقالات الفورية لصالح منصة غوغل AMP الأقل تقييدا لصفحات الجوال المسرعة. في الواقع، 38 من 72 من المشاركين في إطلاق منصة المقالات الفورية بما في ذلك نيويورك تايمز و واشنطن بوست تخلوا في  النهاية عنها وفقا لدراسة أجرتها Columbia Journalism.

ومع ذلك، لا يتوفر للناشرين سوى عدد قليل من مصادر جلب الزيارات الرئيسية خارج موقع فيسبوك و محرك بحث غوغل. و مع خسارة قراء غوغل و تحرك تويتر إلى تغيير خوارزمية الأخبار، يبدو أنه لم تعد هناك العديد من الخيارات المتاحة أمام  وسائل الإعلام.

الإستيلاء على جميع الموارد و تحويلها نحو إهتمام مركزي

مرارا و تكرارا وعبر كل العلامات التي تشير لذلك، الفيسبوك لديه اهتمام مركزي للإنتشار في نطاق أكبر عبر شبكة الإنترنت.وقد نمت شهية الموقع حيث يحاول أن يفعل الشيء نفسه مع خدمة ووتش (يوتيوب)، ماركت بلس (كريغ ليست و إيباي) والعديد من الميزات الأخرى.

و سيجعل هذا من الناشرين و منشئي المحتوى يعتمدون بشكل كبير على الفيسبوك. وهذا يعطي الموقع القدرة على تقرير ما هي أنواع المحتوى، ما هي الموضوعات و ما هي المصادر الهامة.

و حتى لو كان الفيسبوك يسوق لنفسه كمنصة تكنولوجيا محايدة، فإنه يلعب ضمنيا دور شركة وسائل الإعلام عملاقة. و التي تسيطر على التوجهات من خلال الخوارزميات القابلة للتعديل و تحديد مستوى استهلاكنا للأخبار في جميع أنحاء العالم.

fountain-pen-on-newsletter-text_M1VkWwPd.jpg

جانب الأعمال يبدو أيضا مثيرا للقلق. و كما وصفه المحلل Ben Thompson ، فقد تخلى المعلنون عن مواقع الأخبار وتجمعوا حول موقع فيسبوك حيث يمكنهم استهداف عملائهم بدقة أكبر.و لماذا الإعلان على موقع أخبار وسيط عندما تستطيع الشركات أن تصل مباشرة إلى عملائها بدقة أكبر وقد  اصبح الناشرون الصغار لا يستطيعون حتى المنافسة على دولارات الإعلانات .

و لكن إذا كان البعض منهم يحاول منافسة فيسبوك و التخلي عن تقديم محتواه هناك، فإن ناشر آخر سوف يجلب بسهولة نفس القصص إلى الشبكة الاجتماعية في مقابل زيادة حركة المرور على المدى القصير. فهناك دائما شخص آخر على استعداد لتقديم المحتوى.

السيطرة بواسطة تغيير الاستراتيجية

المشكلة الحقيقية تتجلى فقط عندما يتحول الفيسبوك الى اتجاهات جديدة .حيث يظهر ذلك من خلال أن المستخدمين يريدون المزيد من محتوى الفيديو، و بالتالي تتغير خوارزمية خلاصة الأخبار و سرعان ما يركز الناشرون على الإستثمار في الفيديو و يعينون فرقا و يشترون معدات باهظة الثمن حتى يتمكنوا من تفجير المحتوى على فيسبوك بدلا من التفكير في زوار الموقع المخلصين.

و لكن بعد ذلك يقرر الفيسبوك أن مشاهدة الكثير من الفيديوهات له تأثير سلبي على المستخدمين، لذلك يتم تقليل الوصول في خلاصة الأخبار و تضيع موارد الناشرين و أوقاتهم في مطاردة بعض الدخل .

facebook-is-going-to-start-showing-you-more-local-news-in-your-news-feed.jpg

و يدرس الناشرون حاليا خياراتهم  وسط تغيير كبير آخر في استراتيجية الفيسبوك. الذي يسعى الآن لتعويض التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الأخبار الكاذبة، ادعاءات التحيز السياسي، استقطاب المجتمع ، انتشار الفيديو الفيروسي (Viral ; Buzz)، عدم التواصل مع الأصدقاء و المخاوف من أن الكثير من التصفح يضر صحتنا و رفاهنا.

و هذا ما أدى إلى إعلان الفيسبوك أنه سيتم إزالة 20٪ من الأخبار من خلاصة المحتوى الذي يظهر للمستخدمين لإعطاء الأولوية لمساركات الأصدقاء و العائلة التي حسب زوكربيرغ لها مغزى أكثر.

و قال زوكربيرغ في تصريح عن أرباح الربع الرابع للشركة في الأسبوع الماضي، إن الفيسبوك قد قام بالفعل بتبديل خوارزميته لإظهار عدد أقل من مقاطع الفيديو الفيروسية و تحسين المحتوى. و كانت النتيجة إنخفاض مستوى استخدام الفيسبوك عالميا ب 50 مليون ساعة يوميا.

وهو ما يعني 2.14 دقيقة لكل مستخدم يوميا، أو 5 في المائة من إجمالي الوقت الذي نقضيه في الفيسبوك. و قد كانت الشركة على استعداد لمثل هذه التغييرات التي أدت إلى تباطؤ معدل نمو المستخدمين من أي وقت مضى.

ومع ذلك، فإن منشئي الفيديو و ناشري الأخبار هم من سيدفعون ثمن هذا الهدف.حيث لا تزال إيرادات فيسبوك تسجل رقما قياسيا بلغ 12.97 مليار دولار، و لا يزال المستثمرون يعززون سعر سهم الشركة.

من خلال تقليل الوقت الإجمالي الذي يقضيه المستخدمون و لكن رفع جودة المحتوى الذي يظهر لهم، ينتهي الفيسبوك بعدد أقل من إجمالي مرات ظهور الإعلان و لكن معدلات مشاركة أعلى مع إعادة المحتوى.

و سيظل المعلنون الذين يتوقون إلى الوصول إلى جمهورهم الضخم يتنافسون في مزادات الإعلانات على فيسبوك و بالتالي يدفعون أسعارا أعلى.

الأخبار المحلية

MoreLocalNewsOnFacebook-840x460.jpg

و من جهة أخرى تواجه موقع الأخبار المحلية منافسة جديدة مع بداية هذه المرحلة . حيث يقول الفيسبوك أنه سوف بظهر المزيد من الأخبار المحلية  و يعطي الأولوية للمحتوى الذي يناقشه الأشخاص بدلا من الاستهلاك السلبي.

و لا شك أن هناك فرصة هنا لمواقع الأخبار المحلية. و لكن المفتاح للحفاظ على أعمالهم ليس تغيير المسار تماما لمتابعة خوارزميات الفيسبوك.و سواء أكنت تعتقد أن الشركة تحاول عمدا تدمير الصناعات التي تغزوها أو مجرد تحديثها لفائدة المستخدمين، يجب على الناشرين مواجهة الفيسبوك بطرق جديدة.

و يبدو ان هدف الفيسبوك المقبل هو أن يصبح أفضل مكان للحصول على الأخبار المحلية، وليس الصحف المحلية أو المدونات. و قد يستخدم طرقا جديدة لعرض العناوين مع القليل من التشجيع للقراء للنقر عليها كما يفعل مع المحتوى  اليوم.

كما  قد يجعل الصور ومقاطع الفيديو تحمل بشكل أسرع مما تفعله المواقع المحلية. و كذلك مايخفيه الفيسبوك من ميزات و تخصيصات لجذب المستخدمين اكثر.

و قد يكون ذلك جيدا للقراء و بالتالي جيدا للفيسبوك على المدى الطويل، لكنه أمر خطير على الناشرين. و الذين ينبغي عليهم أن يركزوا على تحويل القراء إلى زائرين للصفحة الرئيسية و بالتالي يعودون بشكل متكرر.

و يجب كذلك أن يقوموا بتحليلات حول أنواع الأخبار التي يريدها جمهورهم ، وينبغي كذلك أن يستثمروا في تطوير تكنولوجيا الإعلانات الخاصة بهم أو الشراكة مع مزودي خدمات طرف ثالث . كما يجب عليهم الاستمرار في دعم إشتراكات البريد الإلكتروني و الأحداث .

و لسوء الحظ، لم يتمكن الناشرون الكبار الممولون بشكل جيد من مواهب التكنولوجيا المنافسة مع متغيرات فيسبوك. فكيف سيكون حال اللاعبين الصغار دون خبرة تكنولوجية أو استراتيجية على المدى الطويل ؟.

ولكن مع تحول الفيسبوك نحو الأخبار المحلية كرد على مشاكل رفاهيتنا، من المعلومات المضللة الى استقطاب المجتمع، فإنه يشكل أيضا تهديدا للمؤسسات الإعلامية. التي تتابع و ترى ان التقدم التكنولوجي كان مجرد إزدهار و هيمنة من قبل الشبكة الاجتماعية .

و لكن الآن أفضل رهان للناشرين الذين يعولون على صفحة الفيسبوك للبقاء على قيد الحياة هو الإستثمار في عملائهم و متابعيهم على المدى الطويل بدلا من المخاطرة بخوارزميات الفيسبوك القصيرة الأجل.


اقرأ أيضا :


جوجل و فيسبوك تستهدفان باريس كمركز للتوسع في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي

المصدر